القائمة الرئيسية

الصفحات

علي الغنبوري يقدم قراءة في التقرير الشهري لمكتب الصرف

 





في خضم السياق الاقتصادي الوطني الذي يتسم بتقلبات داخلية وضغوطات خارجية متزايدة، تكشف المؤشرات الشهرية لمكتب الصرف إلى حدود أبريل 2025 عن ملامح مختلطة، تجمع بين مكاسب ظرفية لا يمكن إنكارها، ومظاهر خلل هيكلي تزداد حدة، مما يدفع إلى طرح تساؤلات جادة حول فعالية السياسات الاقتصادية المتبعة، ومدى انسجامها مع رهانات التنمية والإقلاع الاقتصادي المنشود.


تشير المعطيات إلى تحقيق فائض مهم في ميزان الخدمات بلغ 46,3 مليار درهم، بزيادة نسبتها 11,9% مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية، وهو مؤشر إيجابي يعكس تطورا في القطاعات المرتبطة بالتصدير غير المادي، وعلى رأسها السياحة وخدمات الأعمال، غير أن هذا التحسن، وإن كان مرحبًا به، يظل هشًا لكونه غير مرتبط بعمق هيكلي في الاقتصاد، بل بتغيرات ظرفية مرتبطة بانتعاش ما بعد الجائحة والتقلبات السياحية الموسمية.


في المقابل، يسجل عجز الميزان التجاري ارتفاعا مقلقا، إذ بلغ 108,9 مليار درهم بزيادة 22,8% عن نفس الفترة من سنة 2024، وهو ما يكشف استمرار التبعية الهيكلية للخارج في تغطية الحاجيات الوطنية من المواد الأولية والسلع التجهيزية والاستهلاكية، ويؤكد فشل محاولات إعادة التوازن بين التصدير والاستيراد، رغم الخطابات المتكررة حول تنويع النسيج الإنتاجي وتعزيز القدرة التنافسية للمنتوج المغربي.


وتظهر أرقام الواردات اتجاها تصاعديا بنسبة 9,1%، لتصل إلى 263 مليار درهم، مدفوعة بارتفاع واردات المنتجات النهائية الموجهة للاستهلاك، مثل السيارات السياحية والأدوية والمفروشات، مما يكرس بنية استهلاكية للواردات لا تساهم في تطوير أدوات الإنتاج المحلي، ولا تنعكس بشكل مباشر على إحداث فرص شغل دائمة أو تقوية نسيج المقاولة الوطنية.


وعلى مستوى الصادرات، فقد سجلت زيادة طفيفة لا تتجاوز 1,2%، وهو معدل ضعيف يبعث على القلق، خاصة وأن هذه الزيادة تركزت في قطاعات محدودة مثل الفوسفاط والطيران والفلاحة الأولية، بينما تراجعت قطاعات حيوية يفترض أن تكون قاطرة للتصنيع المغربي مثل قطاع السيارات (-7%) والإلكترونيات (-7%) والنسيج (-2,7%)، مما يعكس محدودية الاستراتيجية الصناعية المعتمدة وغياب مرونة في مواجهة المتغيرات الدولية.


أما تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، والتي تشكل أحد مصادر تمويل الاستهلاك الداخلي والاحتياط من العملة الصعبة، فقد تراجعت بـ3,7% لتستقر عند 35,9 مليار درهم، وهو تراجع يستدعي القلق، لأنه قد يرتبط بعوامل متعددة من بينها فقدان الثقة أو ضعف الحوافز، ويكشف كذلك عن هشاشة الاعتماد المفرط على هذه التحويلات في تمويل العجز الجاري.


وفي سياق الاستثمارات، سجلت تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة تحسنا ملموسًا، حيث ارتفعت الإيرادات بـ22,8% لتبلغ 17,2 مليار درهم، وهو مؤشر إيجابي يدل على استمرار جاذبية المغرب في بعض القطاعات، غير أن هذه الاستثمارات تظل مركزة جغرافيًا وقطاعيًا، دون أن يكون لها الأثر الكافي في نقل التكنولوجيا أو خلق القيمة المضافة على نطاق واسع،

في المقابل، تراجع صافي الاستثمار المغربي بالخارج بنسبة 9,7%، ما يبرز تردد المقاولات المغربية في الانفتاح الخارجي، وغياب رؤية هجومية لبناء علامات تجارية واستثمارات ذات إشعاع إقليمي ودولي، وهو ما يحرم الاقتصاد الوطني من فرص توسع استراتيجية واستغلال الأسواق الإفريقية والآسيوية الصاعدة.


وإذا كانت صادرات الفوسفاط ومشتقاته قد حققت نموًا بـ12,3%، فإن هذا الأداء يظل مرتبطًا بتقلبات السوق العالمية أكثر من كونه نتاجا لسياسة تصديرية محكمة، كما أن مساهمته في الاقتصاد تبقى محدودة من حيث خلق فرص الشغل أو الدفع بمنظومات صناعية مرافقة، مما يدفع إلى ضرورة التفكير في سلاسل تثمين أكثر تكاملا وتأثيرًا في النسيج الاقتصادي المحلي.


أما قطاع الفلاحة والصناعات الغذائية، فرغم النمو الطفيف في الصادرات الفلاحية الأولية، إلا أن الصادرات الصناعية الغذائية شهدت تراجعًا بـ5,3%، ما يدل على ضعف في تثمين المنتوج المحلي وفشل في تحويل الوفرة الفلاحية إلى قيمة مضافة صناعية وتصديرية، وهو ما يبرز الخلل الهيكلي في العلاقة بين الفلاحة والصناعة،

وفي ظل هذه التحديات، لا بد من التنبيه إلى التراجع المستمر في معدل التغطية، الذي انتقل من 85,8% إلى 82,1%، وهو ما يكرس العجز المزمن في الميزان الجاري، ويدق ناقوس الخطر حول الحاجة إلى إصلاحات عميقة في البنية الاقتصادية، تنطلق من دعم الإنتاج المحلي، وتحفيز الصادرات ذات القيمة المضافة، وتقوية التموقع المغربي في سلاسل القيمة العالمية.


أمام كل هذه المعطيات، تبدو الحاجة ملحة إلى إعادة النظر في خياراتنا الاقتصادية الكبرى، وإرساء نموذج تنموي أكثر توازنا، قوامه توجيه الاستثمار العمومي نحو الإنتاج والتصدير بدل الاستهلاك والاستيراد، ومصاحبة المقاولات الصغرى والمتوسطة للاندماج في الاقتصاد العالمي، مع اعتماد حكامة جديدة مبنية على النتائج والتتبع الميداني، لأن الأرقام وحدها لا تصنع التنمية، ما لم تكن مصحوبة بإرادة سياسية فعلية وإصلاحات بنيوية شجاعة.


أنت الان في اول موضوع

تعليقات